قراءة في تاريخ مؤسس
الخلافة العباسية
من كتاب الحقيقة
الغائبة
للدكتور فرج
فودة
ليست الدولة العباسية في حاجة إلى تقديم، فقد قدمت نفسها على يد مؤسسها،
السفاح، أول خلفاء بني العباس، المعلن على المنبر يوم
مبايعته (أن الله رد علينا حقنا، وختم بنا كما افتتح بنا،
فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير(.
وقد أثبت السفاح أنه جدير بالتسمية، فقد
بدأ حكمه بقرارين يغنيان عن التعليق وأظن أنه ليس لهما سابقة في التاريخ كله، كما لا
أظن أن أحداً بعد السفاح قد بزه فيما أتاه، أو فاقه فيما فعل:
أما القرار الأول، أو القرار رقم (1) بلغة العصر الحديث فهو أمره بإخراج جثث خلفاء بني أمية من قبورهم، وجلدهم وصلبهم، وحرق جثثهم، ونثر رمادهم
في الريح، وتذكر لنا كتب التاريخ ما وجدوه:
فيقول ابن الأثير(الكامل في التاريخ لابن
الأثير):
(فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا
خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد،
ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته، وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو
غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه فضربه بالسياط وصلبه
وحرقه وذراه في الريح، وتتبع بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم ولم يفلت منهم
إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس).
ويروي المسعودي القصة بتفصيل أكثر فيقول (مروج
الذهب للمسعودي):
(حكى الهيثم بن عدي الطائي، عن عمرو بن هانئ قال:
خرجت مع عبد الله بن علي لنبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح، فانتهينا إلى
قبر هشام، فاستخرجناه صحيحاً ما فقدنا منه إلا خورمة أنفه، فضربه عبد الله بن علي ثمانين
سوطاً، ثم أحرقه، واستخرجنا سليمان من أرض دابق، فلم نجد منه شيئاً إلا صلبه وأضلاعه
ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهم من بني أمية، وكانت قبورهم بقنسرين، ثم انتهينا
إلى دمشق، فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره قليلاً ولا كثيراً، واحتفرنا
عن عبد الملك فلم نجد إلا شئون رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فلم نجد إلا عظماً
واحداً، ووجدنا مع لحده خطاً أسود كأنما خط بالرماد في الطول في لحده، ثم اتبعنا قبورهم
في جميع البلدان، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم)
.
ولعلي أصارح القارئ بأنني كثيراً ما توقفت أمام تلك
الحادثة بالتأمل، ساعياً لتفسيرها أو تبريرها دون جدوى، مستبشعاً لها دون حد، فقد يجوز
قتل الكبار تحت مظلة صراع الحكم، وقتل الصغار تحت مظلة تأمين مستقبل الحكم، ومحو الآثار
تحت مظلة إزالة بقايا الحكم (السابق) لكن إخراج الجثث.. وعقابها.. وصلبها.. وحرقها..
أمر جلل!
والطريف أن البعض رأى في ذلك معجزة إلهية، فالجثة
الوحيدة التي وجدت شبه كاملة.. وعذبت (إن جاز التعبير) وصلبت.. وحرقت ثم نثر رمادها
في الريح هي جثة هشام بن عبد الملك، وقد رأى البعض في ذلك انتقاماً إلهياً من هشام
إذ خرج عليه زيد بن علي بن الحسين، وقتل في المعركة، ودفنه رفاقه في ساقية ماء، وجعلوا
على قبره التراب والحشيش لإخفائه، فاستدل على مكانه قائد جيش هشام، (فاستخرجه
وبعث برأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام: أن اصلبه عرياناً، فصلبه يوسف كذلك، وبنى تحت
خشبته عموداً ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وذروه في الرياح) (مروج الذهب للمسعودي – ج3ص219).
وإذا فسرنا ما حدث لهشام بالانتقام وبالجزاء من جنس
العمل، فماذا نفسر ما حدث لغيره، وفي أي نص من كتاب الله وسنة رسوله وجد العباسيون
ما يبرر فعلتهم، وأين كان الفقهاء والعلماء من ذلك كله، أين أبو حنيفة وعمره وقتها قد تجاوز الخمسين،
وأين مالك وعمره وقتها قد تجاوز الأربعين، ولم لاذوا بالصمت ولم لاذ غيرهم بما
هو أكثر من الصمت، أقصد التأييد، والتمجيد، والأشعار، ورواية الأحاديث المنسوبة للرسول
والمنذرة بخلافة السفاح ومنها ما أورده ابن حنبل في مسنده مثل (يخرج
رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له السفاح، فيكون إعطاؤه
المال حثياً).
ومثل ما ذكره الطبري من (أن رسول الله أعلم
العباس عمه أن الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك).
أو لعلهم كانوا بقصة مأدبة السفاح، وهي ما أشرنا إليه
بالقرار الثاني في خلافته، وهو قرار خليق بأن في أيامنا هذه في معاهد السينما كنموذج
رائع لحبكة الإخراج، وتسلسل السيناريو وترابطه، ليس هذا فحسب، بل أن القرار قد سبقته
(بروفة)، أي تجربة حية في نفس موقع التمثيل.
ولن يشك القارئ في أن كل ما حدث كان مرتباً، وأن الأقدمين
كانوا على دراية واسعة بفن التشويق، وكانوا أيضاً على مقدرة كبيرة في تدبير المفاجأة،
ثم تبريرها بحيث تمر طبيعية ومتناسقة ومتسقة مع سياق الأحداث، ولنبدأ بالبروفة ولنقرأها
معاً كما ذكرها ابن الأثير (الكامل في التاريخ لابن الأثير
– ج4 ص 333):
(دخل سديف"الشاعر"على السفاح وعنده
سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أكرمه فقال سديف:
لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أموياً
فقال سليمان: قتلتني يا شيخ، ودخل السفاح وأخذ سليمان فقتل)
ومن قراءة ما ذكره ابن الأثير يمكن ترتيب سيناريو
الأحداث على النحو التالي:
السفاح يؤمن أحد كبار الأمويين (نجل خليفة سابق)
– السفاح يبالغ في تأمينه وطمأنته بدعوته إلى الطعام، وإكرامه – يدخل شاعر على السفاح
ويبدو دخوله كأنه مفاجأة – ينطق الشاعر بأبيات تدعو للانتقام من الأمويين وتستنكر معاملتهم
بالرفق واللين – يصرخ الأموي قائلاً: قتلتني يا شيخ – ينفعل الخليفة بقول الشاعر فيقتل
الأموي – ينتهي المشهد.
والآن إلى القرار أو الحادثة أو الفيلم الكامل لما
فعله السفاح بعد ذلك وكرر فيه نفس ما حدث في البروفة، مع إتقان أكثر، وتفنن غير مسبوق
في التمثيل (بالأمويين)، ولنقرأ معا ما ذكره ابن الأثير:
(دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم "وفي رواية أخرى سديف"
على عبد الله بن علي "وفي رواية أخرى على السفاح" وعنده من بني أمية نحو
تسعين رجلاً على الطعام فأقبل عليه شبل فقال:
أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وباس
لا تقيلن عبد شمس عثارا واقطعن كل رقلة وغراس
ذلها أظهر التودد منها وبها منكم كحر المواسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان والإتعاس (إلى آخر
القصيدة)..
فأمر بهم عبد الله (وقيل أنه السفاح) فضربوا بالعمد حتى
قتلوا وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام
عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا).
والرواية السابقة تبدأ بتأمين السفاح للأمويين الذين
زاد عددهم هذه المرة إلى تسعين، والمأدبة هي نفسها، وما دام المضيف هو الخليفة فالكرم
وارد، والطمأنينة لا حد لها، وفجأة يدخل الشاعر، ويستنكر اكرامهم، ويدعو للثأر منهم،
فيتغير وجه الخليفة، ويقوم إليهم ثائراً، و...
وهنا نتوقف لأن هنا جديداً مفزعاً، فقد أمر السفاح بضرب رؤوسهم بأعمدة حديدية، بحيث تتلف بعض مراكز
المخ، ويبقى الجسد حياً، مصطرعاً بين الحياة والموت، وما أن يرى السفاح أمامه تسعين
جسداً منتفضاً، تقترب مسرعة من الموت، وترتفع أصواتها بالأنين، حتى يأمر بوضع مفارش
المائدة فوقهم، ثم يجلس فوق هذه المفارش، ويأمر بالطعام فيوضع أمامه فوق الأجساد، ويبدأ
في تناول عشائه بينما البساط يهمد هنا ويهمد هناك، وبين همود وهمود، يزدرد هو لقمة
من هذا الطبق، ولقمة من ذاك، حتى همد البساط كله، ففرغ من طعامه، وتوجه إلى الله بالحمد،
وإلى حراسه بالشكر، وإلى خاصته بالتهنئة، ولعله قال لنفسه، أو لخاصته، والله ما أكلت
أهنأ ولا ألذ ولا أطيب من هذا الطعام قط، فليس أقل من هذا الحديث ما يلائم سلوك السفاح،
ذلك الذي يزدرد اللقيمات على زفرات الأنين، ويساعده على الهضم صعود الأرواح!
قد نفهم أن يقتل الحاكم الجديد حكام الأمس، أو أن يتخلص بالقتل من منافسيه على الحكم،
أو مناوئيه على السلطة، فقد حدث هذا كثيراً، وأقرب نماذجه مذبحة المماليك بالقلعة على
يد محمد علي، لكن ما لا نفهمه، أن يجلس الخليفة فوق الضحايا، وأن يهنأ له الطعام فوق
بركة من الدماء، وعلى بساط يترجرج مع اصطراع الأجساد، وعلى أنغام من صراخ الضحايا حين
يواجهون الموت، بل ربما وهم يسعون إليه هرباً من الألم والعذاب..
***
إن كانت هذة هي مواقف الخليفة ابو العباس - مؤسس
دولة الخلافة - مع المعارضين السياسيين له.. فأي خلافة إسلامية تلك التي مازال
المغيبين ينتظرونها ويتوهمون بإعادتها مرة ثانية..؟!!
في الحديث عن الأوضاع الحالية الي تمر بها مصر والدعوة إلي إقامة الإحتجاجات والثورات.. تجد البعض يقول أن سبب الفقر والبطالة والظلم
الذي يعاني منه المصريين هو عدم الآخذ بكتاب الله وعدم إقامة الشريعة الإسلامية
وبعضهم يحلم بإقامة دولة الإسلام علي نهج الخليفة عمر بن الخطاب, ويري ان عصره من
أفضل العصور! فيقول احدهم:
"ايام عمر بن الخطاب قبل الفتن التي
حدثت - كان هناك عدل وأمن.. لم يكن هناك فقراء أو جوع, لأن حاكمهم كان يخاف أن
يحاسب حتى على النعجة الجائعة.."!!
في الحقيقة قائل هذا الكلام محق في قوله.. وقت الخليفة عمر بن الخطاب لم يكن هناك فقر او جوع, ولكن هذا لم يكن إلا لسبب واحد.. وهو غزو البلاد المجاورة ونهب وسرقة ثرواتهم وأموالهم المتمثلة في الغنائم والأنفال!
أحلام وهمية يحلم بها أمثال هؤلاء المغيبين.. وفي
الحقيقة أجد العذر لهؤلاء لأنهم لا يدرون حقيقة التاريخ الأسود والمخزي لخلفائهم "الغير
راشدين" ذلك لأنهم من الشعوب الجاهلة التي لا تقرأ.. والتي إن قرأت لا تفهم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق