"لا يوجد شيء تحت السماء يقدر أن يكدرني أو يزعجني لأنني محتم في ذلك الحصن الحصين داخل الملجأ الأمين .. مطمئن في أحضان المراحم .. حائز علي ينبوع من التعزية"
بقلم القمص: مرقس عزيز خليل
في التاسع من شهر مارس من كل عام تحتفل الكنيسة القبطية بذكري نياحة القديس العظيم البابا كيرلس السادس. هذا البطريرك البار الذي كان الله يملأ كل حياته وكان يحبه محبة كاملة حتي كرس كل حياته له، فسلك في دروس الفضيلة. متقرباً نحو إلهه فكانت له حياة عميقة في المحبة والرجاء. في الإيمان والطهارة، في البتولية والسلام وكل أنواع الفضائل. فما أعظمه حينما قال: لا يوجد شيء تحت السماء يقدر أن يكدرني أو يزعجني لأنني محتم في ذلك الحصن الحصين داخل الملجأ الأمين. مطمئن في أحضان المراحم. حائز علي ينبوع من التعزية.
لذلك كانت كلماته تحض دائماً علي السلام وكانت أفعاله تؤكد صدق أقواله. لقد كان أباً روحياً مهاباً وموضع تبجيل الجميع ولم يتعمد أن تكون مهابته من مظهره أو ذكائه أو شدة سطوته أو إرهاب المحيطين به. بل كان مصدرها قوة الله العاملة فيه. فلم يبال والحال هكذا بالمبلس. إذ لم يجد فيه مصدراً من مصادر الاحترام والرفعة التي كان ينالها حيث كان رداؤه هو كمال السيرة. كانت كلماته القليلة مثل الملح الذي يجعل للطعام مذاقاً. وكانت وستظل نوراً ونبراساً نسترشد بها. منذ تم اختيار قداسته للبطريركية امتلأت الكنيسة بالقداسات والصلوات اليومية وامتلأت الكنائس من البخور بصورة لم نرها من أي عهد. لقد وضع أساساً قوياً ومثلاً حياً في كيفية حل المشاكل وذلك برفع الصلوات إلي الله وتسليم كل مشكلة في يديه. كان قداسته قوي الشخصية. له هيبة جبارة عند الكثيرين. وكان وقاره يطغي علي الذين يقابلونه كما تطغي عليهم محبته.
وكان قوي الإرادة متمسكاً فيما يعتقده ولا يمكن أن تتزعزع إرادته، بل كان راسخاً ثابتاً كأنه جبل من جبل. لا تؤثر فيه الأحداث ولا المقارنات دون أن يجرح أحداً أو يسخر من أحد. وكل الذين وقفوا ضده لم تنجح طرقهم. لقد جمع بين أمور كثيرة قد يظن الناس أن الجمع بينها مستحيل أو أنه نوع من التناقض. لقد جمع بين الوداعة والقوة، البساطة والحكمة، البكاء والحزم. لقد جعل البابا كيرلس نفسه خادماً لشعبه منذ اللحظة الأولي لرسامته بطريركاً. ففي ذلك اليوم المشهود ظل واقفاً عدة ساعات وجبينه يتصبب عرقاً ليستقبل جموع مهنئيه من رعيته. وما حدث يوم ذاك ظل يتكرر طوال حبريته دون كلل أو ملل أو تضجر. لقد ظل بابه مفتوحاً أمام الجميع دون تفرقة. لم يحدث أن اعتذر عن مقابلة أحد لارتباطه بمقابلة أحد كبار المسئولين، بل كان يشعر كل شخص بأنه لا يقل أهمية عن أعظم العظماء. كان الأول في الكنيسة ليس لأنه البابا. بل لأنه جعل رئاسته وفقاً لتعاليم الرب بتجنيد ذاته خادماً للشعب. لم يتراخ ولم يهمل في خدمة الصغير والفقير والمحزون. ولم يغض النظر عن احتياجاتهم الروحية والجسدية، فالأبوة في عقيدته بذل وليست تسلطاً والرئاسة خدمة وليست تكبراً والبابوية حب وليست تجبراً. أما طعامه فهو بلا شك كان أقل من طعام أفقر أولاده باعتباره ناسكاً وزاهداً وفي زياراته للأقاليم كانت تعد الموائد احتفالاً بقدومه، ولكنه كان ينادي من وسط الجماهير التي تزاحمه بائع الطعمية بلا أدني معرفة سابقة ويطلب منه أن يعد له وجبة مما تصنعه يداه. يحدث هذا وسط ذهول الكهنة والأراخنة الذين أعدوا ما يليق بمقدار الضيف الكبير، لكنه كان يعزف عنه في هدوء.
أعطي البابا كيرلس السادس مثلاً رائعاً في حياة التأمل والخدمة. في حين أن جمعهما ليس بالأمر السهل.. فقد كان يخدم الكنيسة بأقصي ما يستطيع، وفي الوقت ذاته كان يختلي بنفسه ويأخذ بركات عديدة من التأمل والوحدة.. الوحدة كما تعلمها البابا كيرلس السادس من مار اسحق هي الانسلاخ من الكل للارتباط بالواحد. لذلك كان كثير الصلوات.. حتي في أثناء وجوده وكلامه من الناس. كان صامتاً لا يتكلم كثيراً، لكي يعطي نفسه فرصة التأمل والصلاة. وكان أيضاً يعهد إلي الله بمشاكله.
كثيرون كانوا يلتقون حول قداسة البابا كيرلس السادس. وأغلبهم لم يأتوا للبابا كيرلس السادس لكي يعطيهم آراء عميقة أو صلاة طويلة، وإنما يكفيهم أن يقول لهم كلمة (إن شاء الله ربنا يحلها) وهذا كان يقنعهم أكثر من آلاف الآراء المقنعة. لذا عندما تنيح (انتقل إلي العالم الآخر) انسدت الشوارع المحيطة بالبطريركية بعشرات الآلاف من الناس الذين أتوا لإلقاء النظرة الأخيرة عليه.. الكل يريدون أن يأخذوا بركة البابا القديس الذي عرف معني التواضع الحقيقي. فقد كان متواضعاً في كل شيء. في مظهره وكلماته وسلوكه ومأكله ومشربه، حيث كان يضع أمام عينيه قول السيد المسيح لتلاميذه (من أراد أن يكون أولاً فليكن آخر الكل وخادماً للكل) وكان يقول (ليس محبوباً عند الله مثل الإنسان المتضع. لأن التواضع أفضل من كل شيء. ألم يقل السيد المسيح له المجد تعلموا مني فاني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. ولم يقل تعلموا مني الصوم والصلاة والرحمة. وأمثال هذه لأن كل هذه الصفات والفضائل بدون التواضع لا تحسب شيئاً).
من الوفد
هناك تعليق واحد:
http://freemindland.blogspot.com/2007/10/blog-post_14.html
دي هدية مني ليك
إرسال تعليق